08 - 10 - 2025

صباحيات | التجديد الواجب لذكرى حرب أكتوبر

صباحيات | التجديد الواجب لذكرى حرب أكتوبر

لا خلاف على أن حرب السادس من أكتوبر عام 1973 كانت حدثًا تاريخيًا غير من معادلة الصراع مع إسرائيل بعد هزيمة عام 1967، لكن من المؤسف أننا لم نتعامل إلى الآن مع هذا الحدث الكبير بما يستحق من تأمل في الدروس التي يمكن تعلمها والبناء عليها، أو إبراز دلالاته الوطنية، بل أصبحت هذه الحرب إما موضوعًا لصنع وهمية وزائفة وحجب البطولات الحقيقية التي بذلها ضباط وجنود القوات المسلحة المصرية، ليس فقط في حرب 1973، وإنما أيضا في حرب 1967، وفي حرب الاستنزاف التي استمرت ثلاث سنوات، ووجهت للعدو وللعالم رسالة قوية بأن مصر لن تهدأ حتي تحرر سيناء ولن تصبر يوما واحدًا على تأكيد كرامة وصلابة المقاتل المصري.

بمناسبة تجدد ذكرى حرب أكتوبر، شارك الدكتور محمد رؤوف حامد، أستاذ علم الأدوية بالهيئة القومية للرقابة والبحوث الدوائية، ومفكر مرموق في التنمية والشؤون العامة التي تهم مصر، منشورا تضمن رواية بخصوص حرب أكتوبر لا يصح أن نمر عليها مرور الكرام دون أن نتوقف ونحقق ونحلل ما جاء فيها. الرواية منسوبة للواء طيار حسين كسيبة، أحد المشاركين في الحرب، وذكر المنشور أنه كشفها في حديث تلفزيوني قديم، ذكر فيها أن الرئيس السابق حسني مبارك ارتكب "خطأً كارثياً يوم 6 أكتوبر"، وأنه تسبب في إسقاط 36 طائرة هليكوبتر مصرية كانت تحمل قوات الصاعقة المكلفة بقطع تقدم العدو نحو قناة السويس، وأشار إلى أن هذه الطائرات كانت تمثل نصف قوة الصاعقة في ذلك الوقت، وكان من المفترض أن تحظى بتغطية جوية من الطائرات المقاتلة. وأضاف المنشور استنادًا إلى الشاهد نفسه، أن مبارك، بصفته قائد القوات الجوية، "رفض إرسال الغطاء اللازم"، فكانت النتيجة خسارة فادحة لا يمكن تبريرها عسكرياً. وقال إن هذا الخطأ لم يكن ذلك "مجرد خطأ تكتيكي، بل جريمة قيادية بكل معنى الكلمة".

هذا كلام على قدر كبير من الخطورة لكن الخطورة الأكبر أن تتكرر مثل هذه الروايات بمناسبة ذكر حرب أكتوبر التي تتضارب بشأنها شهادات لقادة عسكريين كبار شاركوا في هذه الحرب من موقع المسؤولية. أقدر أن يحاط الأرشيف المصري الخاص بحرب أكتوبر بدرجات كبيرة من السرية، لكن لا ينبغي لتأمين المعلومات أن يصل إلى الحد الذي لا يسمح بمعرفة الحقيقة ما جرى خصوصًا في ظل ترديد مثل هذه الاتهامات لقائد القوات الجوية، والاعتماد على مصادر خارجية قد يكون من بينها الأرشيف الإسرائيلي عن حرب أكتوبر والمخابرات الأمريكية وغيرها من مصادر للبيانات والمعلومات لكن بشكل مجتزأ لدواعي السرية أيضًا، ولا تقدم الصورة كاملة على الأرجح، لكن يمكن استغلال ما ينشر لتأكيد أو نفي ما يرد من شهادات شخصية عن حرب أكتوبر.

حرب أكتوبر بين التقييم والتزييف

أشار الجانب الآخر من شهادة اللواء كسيبة إلى القائد الفعلي الذي خطط للضربة الجوية، وهو الفريق أول طيار محمود شاكر عبد المنعم، الذي تولى تدريب الطيارين ووضع خطط الهجوم والتوزيع، بصفته "كبير معلمي القوات الجوية"، وهي مكانة نالها بسبب تفوقه الدراسي في الكلية الجوية وفي البعثات التي أوفد إليها، والتي أهلته لأن يكون المرجع الأعلى في التكتيك والتدريب، قبل أن يطغى اسم مبارك على كل من شارك بفضل آلة إعلامية ضخمة. ويصف المنشور ما حدث بأنه "ليس مجرد تزوير لسطر في كتاب التاريخ، بل تزوير لوعي أمة. حين تُصنع البطولة على الورق ويُخفى الفشل في الغرف المغلقة، يتحول النصر الحقيقي إلى أداة دعاية، ويُصبح القائد الفاشل “رمزاً وطنياً”. هذه الفقرة الواردة في المنشور صادمة ولافتة للانتباه وتنتقد طريقة التعامل الرسمي مع حدث وطني كبير، وأن هذا التعامل الرسمي اختصر "الجهود والعرق والدماء التي قدمها أكثر من 5000 طيار ومهندس وفني إلى مشهد واحد يُختصر في شخص مبارك، بينما أُقصي القائد الفعلي عن المشهد ونُسي اسمه تماماً.

أرجو ألا يضيف هذا التعليق إلى التشاحن والمزايدات حول حرب أكتوبر، وإنما أن يتم التعامل معه كدعوة لبداية تفكير جديد في كيفية الاحتفال بذكرى هذه الحرب المجيدة، بإتاحة ما يمكن اتاحته من وثائق للاطلاع العام، كي يقف الرأي العام في مصر على حقيقة ما جرى بشكل منصف يعطي لكل ذي حق حقه ويبرز أدوار من ساهموا في صنع هذه الملحمة، وفي مقدمتهم بطبيعة الحال "الجندي المجهول"، الذي يشير إلى الركيزة الأساسية للمجهود الحربي المصري، المقاتل المصري الصلب من المجندين وأفراد القوات المسلحة. وأن تسمح هذه الوثائق على مستوى آخر بالدراسة واستخلاص الدروس والعبر من ملحمة العبور، التي من المفترض ألا تختزل في عبور الجيش لقناة السويس، وإنما يتم توسيعها لعبور مصر إلى المستقبل.

لقد دفع المنشور المذكور إلى ذاكرتي على الفور حادثتين توقفت عندهما بعد قراءته..

الحدث الأول هو صدور تقرير "لجنة أجرانات" وهو تقرير إسرائيلي عن حرب أكتوبر التي يطلقون عليها "حرب يوم الغفران". وهذا التقرير أصدرته لجنة جرى تكوينها في 21 نوفمبر 1973 للتحقيق في تقصير الجيش الإسرائيلي خلال الأيام الثلاثة الأولى من حرب أكتوبر. وحمل التقرير اسم رئيس قضاة المحكمة العليا الإسرائيلية شمعون أجرانات، الذي تولى رئاسة اللجنة التي ضمت إثنين من القضاة، هما موشيه لاندو وإسحاق نابينزال، ورئيسيْ أركان سابقيْن هما الرئيس الثاني للأركان ييجال يادين ورئيس الأركان الخامس حاييم لاسكوف. وعقدت اللجنة جلسات استماع تجاوز عددها 140 جلسة وما يقرب من 58 شاهدًا، من بينهم جولدا مائير رئيسة الوزراء، وموشيه ديان رئيس الأركان، واطلع أعضاء اللجنة عن نحو 188 شهادة خطية، وأصدرت عددا من التقارير الأولية والمؤقتة، قبل صدور تقريرها النهائي، الذي أصدرته اللجنة في 30 يناير 1975، وجاء في أكثر من 1500 صفحة لم ينشر منه سوى المقدمة فقط (42 صفحة). ونشر التقرير كاملًا في أول يناير 1995، باستثناء 48 صفحة اعتبرت معلومات سرية، قبل أن ترفع عنها السرية في عام 2007.

وقبل صدور تقرير "لجنة أجرانات" نشر سبعة صحفيين إسرائيليين كتابًا بالعبرية عنوانه "المحدال"، ونشرت الهيئة المصرية العامة للكتاب في الخامس من يونيو 1974، ترجمة عربية للكتاب بعنوان "التقصير: قصة الحرب العربية الإسرائيلية يرويها سبعة من الصحفيين الإسرائيليين".  

وانتقد الكتاب والتقرير الجيش الإسرائيلي بشدة لافتقاره إلى التأهب والخلل في التنسيق بين مختلف الوحدات، وتناول التقرير جوانب خلل أخرى شملت الأوامر والانضباط والإمدادات الطارئة. وتضمن توصيات منها محاسبة المسؤولين عن التقصير، وهي توصيات وردت في التقارير الأولية السابقة على صدور التقرير النهائي للجنة. وأشارت التقارير الأولية والتقرير النهائي إلى أن أسباب فشل تقديرات القادة العسكريين والسياسيين ومسؤولي أجهزة المخابرات بخصوص الاستعدادات على الجبهتين المصرية والسورية وتوقع الهجوم وكذلك في تقدير القدرات والمعنويات الخاصة بالقوات المصرية والسورية. إن صدور هذا التقرير الرسمي الموثق، ساعد على ضبط كثير من الروايات التي صدرت لاحقًا، ومن بينها رواية الجنرال إيلي زعيرا، رئيس المخابرات الحربية الإسرائيلية "أمان"، الذي أوصت اللجنة بإقالته من منصبه، عن الحرب. وصدرت ترجمة عربية لها في عام 1996، وشهادة دافيد إليعازر الذي كان يشغل منصب رئيس الأركان وأوصلت اللجنة بإقالته، وأيضا وكذلك مذكرات موشيه ديان، الذي يشغل منصب وزير الدفاع، وغيرهم من قادة عسكريين.

إننا بحاجة إلى تقرير مماثل وموثق لضبط الروايات المختلفة التي صدرت في مذكرات بعض من شاركوا في الحرب المكتوب التي قالوا في لقاءات إعلامية بهذه المناسبة. الواقعة الثانية التي قفزت إلى ذاكرتي بمناسبة المنشور المذكور، هي مظاهرات الطلبة عام 1968. فبعد شهور من هزيمة 1967، وبدء محاكمات ضباط الطيران، قاد طلاب الجامعات المصرية مظاهرات تطالب بمحاسبة المسؤولين عن الهزيمة في عام 1968، واستجابت القيادة السياسية لهذا المطلب رغم حساسية الوضع وأن مصر كانت تخوض في ذلك الوقت حرب الاستنزاف، وأصدرت بيانًا يعد من الوثائق السياسية المهمة التي مهدت الطريق لإصلاحات سياسية ضرورية استعدادًا للمعركة هو "بيان 30 مارس"، والذي يستحق حديثًا آخر.  

----------------------------------------

بقلم: أشرف راضي

مقالات اخرى للكاتب

صباحيات | التجديد الواجب لذكرى حرب أكتوبر